قلعة حارم
لعل
أبرز ما يميز مدينة "حارم" قلعتها الإسلامية الشامخة على ارتفاع يقارب
الخمسين متراً عن مستوى أرض المدينة ضمن تل أثري اصطناعي محفور بالصخر،
وذلك في موقع استراتيجي هام يشرف على سهول "العمق" الخصبة ويتحكم بالطرق
الواصلة بين "حلب" و"أنطاكيا" و"بيت المقدس".
وهذا
الموقع يسيطر على المعبر الوحيد على نهر العاصي عند قرية "جسر الحديد"
شمال غرب مدينة "حارم"، الأمر الذي جعل هذه القلعة من أهم الثغور
الإسلامية على الحدود العربية الشمالية وذلك في أقصى الحدود الشمالية
الغربية لمحافظة "إدلب" على بعد 60 كم من مدينة "إدلب".
فتحها
المسلمون في عام 637م على يد "أبو عبيد بن الجراح" الذي انطلق منها لفتح
أنطاكية، واستمرت بيد المسلمين حتى وفاة "سيف الدولة الحمداني"، حيث استغل
البيزنطيون وفاة "سيف الدولة" فقام الإمبراطور "نقفور فوكاس الثاني"
بالاستيلاء على حصن "حارم" عام 978م فزاد على عمارته وتحصيناته، واستمرت
بيد البيزنطيين إلى أن جاء السلاجقة الأتراك بقيادة "سليمان بن قتلمش"
فحررها مع "أنطاكية"، وبقيت القلعة بيد المسلمين إلى أن حاصرها الفرنجة عام
1098م بقيادة "تنكريد" الذي احتلها بعد حصار دام تسعة أشهر، وظلت تحت
سيطرة الفرنجة حوالي خمسين عاماً زادوا في تحصيناتها وعمارتها لتشكل خطاً
دفاعياً عن أنطاكية، وفي عام 1164م استطاع "نور الدين زنكي" تحريرها ووضع
فيها منارتين تشتعلان طوال الليل لهداية أسرى المسلمين الفارين من أيدي
الفرنجة، وبعد أن وصل "صلاح الدين الأيوبي" إلى "حلب" في عام 1183م تسلم
القلعة وبقيت حتى وفاة ابنه الملك الظاهر "غازي بن صلاح الدين".
لقد
اتخذت القلعة في زمن "غازي ابن صلاح الدين" شكل الحصن الإسلامي الأيوبي
الذي نراه اليوم، حيث أعاد تحصين الأسوار وبنى برج المدخل وأضاف إليها
العديد من الأبراج والأبنية داخل القلعة والمستودعات والصهاريج، ولم تلق
القلعة اهتماماً يذكر في العهد المملوكي، وقد دمرها "هولاكو" عام 1260م
وقام بقتل سكانها وتدميرها وحرق مزروعاتها، وذلك في نفس الوقت الذي كان
فيه "الظاهر بيبرس" يقود معركة "عين جالوت" التي انتصر فيها على المغول
انتصاراً حاسماً، ثم آلت القلعة إلى السلطان المملوكي "قلاوون" عام 1283م
بموجب الهدنة التي وقعها مع فرنج عكا، بيد أن القلعة تعرضت للتدمير مرة
أخرى على يد "التتار" بقيادة "تيمورلنك" سنة 1400م، صورة عن بعد للقلعة
فوق التل الذي ينتصب في منتصف مدينة حارمبعد ذلك أهملت زمن العثمانيين منذ
القرن 16م، وقد مرت بها جيوش "إبراهيم باشا" عام1832م، وفي العصر الحديث
تحصنت فيها قوات الاحتلال الفرنسي أثناء الثورات السورية التي كانت على
أشدها في منطقة "حارم" بزعامة المجاهد "إبراهيم هنانو".
تبدو
القلعة بمظهرها الحالي أنموذجاً رائعاً لعمارة التحصينات الإسلامية التي
شاعت في فترات القرون الوسطى، ويعبر طرازها المعماري العسكري عن الأسلوب
التحصيني المميز الذي اتبعه الأيوبيون في تشييد قلاعهم وحصونهم، ويدل على
ذلك انتظام شكل باحتها، ورصف منحدراتها بالبلاط بشكل مشابه لقلاع "حمص
وحماه وشيزر وحلب والمضيق"،
وإن
تخطيط سور القلعة على شكل نصف دائرة جعله مشابهاً لقلعة "بصرى" التي بنيت
في عهد الأيوبيين حول المسرح الروماني وشكلها العام جعلها تشبه قلعة
"المضيق"، أما مدخلها المنكسر فإنه يتشابه مع قلعة "حلب"، ولا يوجد هناك
أي أثر لهندسة الصليبيين العسكرية، حيث لم يمكثوا فيها أكثر من خمسين
عاماً، تتمركز القلعة فوق تل طبيعي اصطناعي بأبعاد 25×180م ارتفاعه 45م
بمساحة تقريبية حوالي 180250م2 وتتخذ كتلة القلعة شكل جذع مخروطي دوراني
يتجه محوره الطولي (شرق- غرب) أما المحور العرضي فيتجه (شمال- جنوب)،
ويحيط بها خندق عميق منحوت بالصخر الطبيعي، ويلي الخندق منحدر صخري تمت
تغطيته ببلاط حجري مصقول يحيط بالقلعة بشكل كامل، يتخذ الضلع الشمالي من
القلعة شكلاً مستقيماً توزعت على طوله الأبراج المستطيلة والمربعة بشكل
منتظم، حيث زودت هذه الأبراج بمرامي السهام بعدة مستويات ومن كافة الجهات،
أما الضلع الجنوبي فقد اتخذ شكلاً نصف دائري توزعت الأبراج على محيطه
بشكل شعاعي، ويلاحظ في الزاوية الشمالية الشرقية من القلعة تمركز برج ضخم
يسمى "القليعة" يشكل نقطة علام فيها، تظهر فيه كثافة في عدد مرامي السهام
في مستوياته الثلاثة بالإضافة إلى ارتفاعه عن مستوى الأبراج الأخرى، ومرد
هذا الإجراء إلى تأمين خط دفاعي قوي في هذه النقطة بالذات من القلعة
لكونها نقطة ضعف نتيجة ارتفاع مستوى الكتلة الصخرية عند حافة الخندق، ما
يؤمن منطقة ملائمة للعدو لقصف القلعة بالمجانيق، الباحث محمد الأحمدأي إن
هذا البرج ذو وظيفة مزدوجة دفاع ومراقبة.
يقع
مدخل القلعة ضمن كتلة برج المدخل في الزاوية الجنوبية الغربية، وتنفتح
البوابة ضمن كتلة البرج الشمالي منهما، حيث تؤدي إلى مدخل منكسر وهي
تتشابه بهذا مع قلعتي "حلب ونجم"، وتتفرع محاور الحركة ضمن القلعة عبر هذا
المدخل ليؤدي المحور الأول إلى الخط الدفاعي الجنوبي، ويتجه المحور
الثاني باتجاه الخط الدفاعي الغربي، أما المحور الثالث المباشر فيؤدي إلى
السوق التجاري، وألحق بالسوق العديد من المستودعات والغرف لتخزين البضائع
وحمام للعموم، أما القسم الشرقي من القلعة فقد احتوى على قصر الإمارة
المؤلف من عدة قاعات وغرف، وحمام خاص، وتتميز القلعة باحتوائها على بئر
ماء نحتت أجزاؤه السفلية بالصخر ويتم النزول إلى البئر بواسطة درج حجري
مؤلف من 150درجة تؤدي إلى نبعة المياه القائمة في أسفل منحدر القلعة
الشمالي والتي تسمى "عين القلعة".
بين
عامي 1999- 2003 عملت البعثة الأثرية السورية- الإيطالية المشتركة في
القلعة، بهدف التعرف على السويات الاستيطانية في القلعة والمراحل الزمنية
التي مرت عليها، حيث كشفت بعض الأسبار عن استيطان مبكر يعود إلى الألف
الأول قبل الميلاد (530-330ق.م) وهي فترات السيطرة الإخمينية على شمال
بلاد الشام،
ومن
خلال الحفريات تم الكشف عن بقايا مبنى سكني ضخم مؤلف من ثماني قاعات
مربعة، وقد ألحق بالغرف قسم خدمة (مطبخ) توضع في القسم الجنوبي الغربي من
المبنى، ويمكن أن نؤرخ فترات بناء هذا المبنى بين القرنين 18-19م، وتدل
تقنية إنشاء الجدران والأرضيات على أهمية هذا المبنى، ومن الممكن أنه مخصص
لسكن حاكم المنطقة في الفترات العثمانية المتأخرة، وتم الكشف في بهو
المدخل الرئيسي عن ثلاث سويات ومراحل لأرضية المدخل (أيوبية- مملوكية)،
ولم يتم الوصول إلى مستوى الأرضية الأصلية، وفي سبر آخر في أحد المستودعات
خلف السوق توضحت بقايا لجدار بيزنطي يعود من داخل القلعةإلى القرن العاشر
الميلادي.
إن
وقوع قلعة "حارم" قرب معبر "باب الهوى" بوابة أوروبا على "سورية"
ومجاورتها لمنطقة غنية بالآثار يجعلها تحتل مكانة هامة على خارطة تطوير
الاستثمار السياحي في محافظة "إدلب"، فماذا عن جهود استثمار هذه القلعة
سياحياً؟ يجيب مدير سياحة "إدلب" "محمد ميمون فجر": «إن تطوير واقع
الاستثمار السياحي في القلعة رهن بقوانين الآثار، وفي حال تسهيل الحصول
على موافقات بإقامة مشاريع استثمارية في القلعة ستشهد تلك المنطقة فورة
مهمة في هذا المجال، خاصة أن موقع القلعة يشكل نقطة مشاهدة لسهول "حارم"
المحيطة أو ما كان يسمى "الغوطة الصغرى"، وحاليا يقوم أحد المستثمرين
بالحصول على الموافقات اللازمة من الآثار لإقامة مشروع سياحي في القلعة
عبارة عن مطعم وكافتريا.